الانتقال إلى بلد جديد يفتح أبوابًا واسعة للفرص، لكنه يحمل في الوقت نفسه تحديات نفسية واجتماعية عميقة. بالنسبة للناطقين باللغة العربية في فنلندا، قد تكون هذه التحديات مضاعفة بسبب اختلاف اللغة والثقافة وطبيعة المجتمع. ومع أن فنلندا تُعرف عالميًا بجودة خدماتها الصحية، يبقى السؤال محوريًا: هل يحصل الناطقون بالعربية على دعم نفسي وصحي مناسب يراعي احتياجاتهم الخاصة؟

هذا الموضوع ليس مجرد نقاش إداري أو تنظيمي، بل هو قضية تمس حياة آلاف الأسر العربية التي تحاول التوازن بين بناء مستقبل جديد في بيئة مختلفة والمحافظة على الصحة النفسية والجسدية في الوقت نفسه. يستند النظام الصحي الفنلندي إلى مبدأ المساواة، حيث تلتزم الدولة بضمان حصول جميع المقيمين بشكل قانوني على الرعاية الصحية. منذ بداية عام 2023، أصبحت مسؤولية تنظيم هذه الخدمات تقع على عاتق مناطق الرفاهية (Hyvinvointialueet) التي تدير المستشفيات، المراكز الصحية، والخدمات الاجتماعية. بحسب بيانات المعهد الوطني للصحة والرعاية الاجتماعية (THL)، فإن المهاجرين، ومن بينهم الناطقون بالعربية، يواجهون معدلات أعلى نسبيًا من الاضطرابات النفسية مثل القلق والاكتئاب مقارنة بالسكان المحليين، ويرجع ذلك غالبًا إلى صعوبات الاندماج، البطالة، أو الحنين للوطن. وتشير تقديرات InfoFinland إلى أن نحو 20% من الأشخاص في فنلندا يعانون من الاكتئاب خلال حياتهم، وهو رقم يُظهر مدى أهمية وجود رعاية نفسية فعالة وميسّرة للجميع، خصوصًا المهاجرين. ومع أن الحكومة خصصت موارد لترجمة المعلومات الصحية وتقديم خدمات متعددة اللغات، إلا أن الطريق ما زال صعبًا بالنسبة للكثيرين، خصوصًا من لا يتقنون الفنلندية أو الإنجليزية.

التحديات

1. حاجز اللغة, اللغة تظل العقبة الأولى أمام الناطقين بالعربية. معظم الأطباء والمعالجين النفسيين يتحدثون الفنلندية أو السويدية، وأحيانًا الإنجليزية. لكن عند الحديث عن قضايا نفسية حساسة، لا تكفي المعرفة البسيطة بلغة أجنبية. وجود مترجم رسمي ضروري، غير أن توفير مترجم في جميع المواعيد ليس مضمونًا دائمًا، ما يؤدي إلى سوء فهم أو فقدان ثقة بين المريض والمختص.

2. الثقافة والوصمة في كثير من المجتمعات العربية، لا تزال مشكلات الصحة النفسية مرتبطة بنوع من الوصمة الاجتماعية. البعض يفسر الاكتئاب أو القلق على أنه ضعف في الإيمان أو قلة صبر، ما يثني الأشخاص عن طلب المساعدة. في فنلندا، يُنظر إلى الصحة النفسية كجزء أساسي من الصحة العامة، لكن هذه النظرة لا تنتقل بسهولة إلى المهاجرين ما لم يُشرح السياق ويُبنى الجسر الثقافي.

3. البيروقراطية وصعوبة الوصول النظام الصحي الفنلندي قد يبدو معقدًا لشخص جديد: من أين يبدأ؟ هل عليه مراجعة مركز صحي (terveysasema) أولًا، أم طلب إحالة لطبيب نفسي متخصص؟ بالنسبة للكثيرين، هذه الإجراءات ليست واضحة. كما أن فترات الانتظار الطويلة، خصوصًا في المدن الكبرى مثل هلسنكي، قد تجعل المريض يفقد الأمل أو يضطر للجوء إلى القطاع الخاص بتكاليف مرتفعة.

4. الوضع الاقتصادي العلاج النفسي الخاص في فنلندا مكلف، حيث قد تصل الجلسة الواحدة إلى 80–120 يورو، بينما دعم Kela (مؤسسة الضمان الاجتماعي) لا يغطي سوى جزء محدود من هذه التكاليف. هذا يشكل عبئًا كبيرًا على أسر عربية محدودة الدخل أو لا تزال في بداية مشوارها المهني.

5. نقص الكوادر المتعددة الثقافات عدد المختصين النفسيين الذين يتحدثون العربية في فنلندا قليل جدًا. غالبًا ما يعتمد الناطقون بالعربية على مترجم، لكن غياب مختص يفهم خلفياتهم الثقافية يجعل العلاج أقل فعالية.

واقعآ حقيقيآ

مثالًا واقعيًا لشاب ناطقا للعربية جاء إلى فنلندا لاجئًا قبل خمس سنوات. في البداية، كان متحمسًا لبناء حياة جديدة. لكن بعد أشهر قليلة، بدأ يعاني من الأرق والقلق بسبب صعوبة تعلم اللغة وعدم تمكنه من العثور على عمل. عندما قرر زيارة المركز الصحي في مدينته، واجه أول عقبة لم يكن هناك موظف يتحدث العربية، واضطر إلى الاعتماد على ابن عمه للترجمة. هذا الموقف جعله يشعر بعدم الراحة لعرض مشاكله النفسية أمام قريب له. بعد محاولات متكررة، حصل على موعد مع طبيب نفسي بمساعدة مترجم رسمي، لكن الانتظار استغرق شهرين كاملين. خلال هذه الفترة، لجأ سامر إلى منظمة محلية وفّرت له جلسات دعم جماعي مع أشخاص يتحدثون العربية. يقول سامر: “لم تكن الجلسات علاجًا نفسيًا بالمعنى التقليدي، لكنها كانت متنفسًا. مجرد أن أسمع أن غيري يمر بنفس التجربة جعلني أشعر أنني لست وحدي.” قصة سامر ليست استثناءً، بل هي صورة متكررة بين كثير من الناطقين بالعربية: خليط من العقبات والفرص، من الصعوبات البيروقراطية إلى الدعم المجتمعي الذي يخفف من حدة المشكلة.

على الرغم من التحديات، هناك نقاط قوة واضحة في النظام الفنلندي:

الحق القانوني في الرعاية: جميع المقيمين بشكل قانوني لهم حق في الرعاية الصحية، بما في ذلك الدعم النفسي، بغض النظر عن أصلهم أو لغتهم.

معلومات مترجمة: مواقع مثل InfoFinland توفر محتوى صحيًا ونفسيًا بالعربية، مما يسهل على المهاجرين فهم الإجراءات والحقوق.

خطوط مساعدة متعددة اللغات: منظمة MIELI تقدم خط أزمة باللغات الأجنبية، من بينها العربية في أوقات محددة.

تركيز حكومي على الاندماج: توجد مشاريع لزيادة وعي العاملين الصحيين بالحساسيات الثقافية للمهاجرين.

هذه الإيجابيات لا تحل جميع المشكلات، لكنها تُظهر أن فنلندا لا تغفل عن احتياجات المهاجرين، بل تحاول التدرج في سد الفجوات تتبنى وزارة الشؤون الاجتماعية والصحة الفنلندية استراتيجية وطنية للصحة النفسية، تهدف إلى تعزيز الوقاية، وتسهيل الحصول على العلاج، وتوسيع الخدمات الرقمية. أحد محاورها الرئيسية هو مراعاة التنوع الثقافي واللغوي في تقديم الخدمات. المعهد الوطني للصحة والرعاية الاجتماعية (THL) يعمل على تطوير برامج تدريبية للأطباء والممرضين حول كيفية التعامل مع مرضى من خلفيات ثقافية مختلفة، بما في ذلك الناطقون بالعربية. على مستوى المجتمع المدني، ظهرت مبادرات عديدة: بعض الجمعيات تنظم مجموعات دعم نفسي باللغة العربية، بينما تقدم البلديات الكبرى مثل هلسنكي موادًا مترجمة وإمكانية الاستعانة بمترجمين فوريين.

مع ذلك، هناك انتقادات متكررة من الناطقين بالعربية ومنظمات حقوقية، أبرزها:

طول فترات الانتظار قبل الوصول إلى طبيب نفسي متخصص.

اعتماد مفرط على الترجمة، مع غياب مختصين يتحدثون العربية.

نقص الموارد في المناطق الصغيرة مقارنة بالعواصم والمدن الكبرى رد الحكومة يتمثل غالبًا في التأكيد على مبدأ المساواة، وأن جميع المقيمين لهم حقوق متساوية، لكن التنفيذ العملي يظل متفاوتًا بحسب المنطقة والموارد المتاحة. الصحة النفسية ليست ترفًا بل حاجة أساسية، خصوصًا لمن يواجهون تحديات الهجرة والاندماج. بالنسبة للناطقين بالعربية في فنلندا، توجد بالفعل فرص وخدمات رسمية تتيح لهم الحصول على الدعم، لكن الوصول إليها يتطلب جهدًا ومعرفة بالنظام، إضافةً إلى مواجهة العوائق الثقافية واللغوية. الرؤية المستقبلية يجب أن تركز على توسيع الخدمات متعددة اللغات، تدريب مختصين أكثر على فهم الخلفيات الثقافية، وتقليص أوقات الانتظار. كما أن إشراك الجمعيات المحلية العربية في تصميم المبادرات الصحية قد يكون خطوة فعالة لسد الفجوة بين السياسات الحكومية وواقع الحياة اليومية.

المصادر

وزارة الشؤون الاجتماعية والصحة: stm.fi – Mental health services

المعهد الوطني للصحة والرعاية الاجتماعية: thl.fi – Mental health of migrants

InfoFinland: infofinland.fi – Mental health

MIELI Crisis Helpline: mentalhealth.fi

Arabi.fi