مع بداية عام 2025، دخلت فنلندا مرحلة جديدة من السياسات المالية التقشفية، إذ أعلنت الحكومة عن حزمة من تخفيضات الميزانية التي طالت مجالات متعددة، من التعليم إلى الضمان الاجتماعي وحتى دعم العاطلين عن العمل. ورغم أن الهدف المعلن هو تقليص العجز في المالية العامة وضبط الإنفاق الحكومي، فإن التدابير الجديدة أثارت جدلاً واسعًا في الأوساط الأكاديمية والاجتماعية، خصوصًا بين الفئات الأكثر تأثرًا: الطلاب، المتقاعدون، والعاطلون عن العمل. فما هي ملامح هذه التخفيضات؟ وكيف ستنعكس على الحياة اليومية للناطقين بالعربية في فنلندا؟ بحسب تقارير هيئة الإذاعة الفنلندية (Yle.fi، 2025)، فقد ركزت التخفيضات على ثلاث جبهات رئيسية: تقليص الدعم الطلابي وإعانة السكن المخصصة لهم، خفض بعض الامتيازات الضريبية والمعاشية للمتقاعدين، وتشديد شروط الحصول على دعم البطالة للعاطلين. الحكومة بررت هذه القرارات بضرورة مواجهة ارتفاع الدين العام، الذي وصل إلى أكثر من 150 مليار يورو في نهاية 2024 وفق بيانات وزارة المالية (vm.fi). إلا أن النقاد اعتبروا أن الإجراءات تستهدف الفئات الأضعف اجتماعيًا بدلًا من التركيز على حلول هيكلية طويلة المدى.

الطلاب كانوا من أوائل المتضررين. فمع بداية أغسطس 2025، عاد نظام بدل السكن الخاص بالطلاب (asumislisä) بدلًا من دعم السكن العام (yleinen asumistuki). ورغم أن الحكومة اعتبرت ذلك خطوة نحو تبسيط النظام، إلا أن الدعم الجديد جاء أقل مما اعتاده الطلاب. إحصاءات كِلا (Kela.fi، 2025) تشير إلى أن نحو 150 ألف طالب سيتأثرون بهذا التغيير، وأن بعضهم قد يخسر ما بين 150 إلى 200 يورو شهريًا، خصوصًا أولئك الذين يستأجرون من أهاليهم. بالنسبة للطلاب الناطقين بالعربية، فإن هذا يعني زيادة الاعتماد على القروض الدراسية أو العمل الجزئي، مما يضعهم أمام تحديات إضافية تتعلق بموازنة الدراسة والعمل.

أما المتقاعدون، فقد واجهوا تغييرات في المعاشات والضرائب المترتبة عليها. تم رفع بعض الحدود المرتبطة بخصم الدخل التقاعدي، لكن بطرق لم تعوض بشكل كافٍ عن ارتفاع الأسعار وتكاليف المعيشة. وفق Tilastokeskus (2024)، ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 7% والطاقة بنسبة 6% خلال عام واحد، وهو ما يعني أن أي تخفيض طفيف في الدخل الصافي للمتقاعدين يترجم مباشرة إلى انخفاض مستوى معيشتهم. التجارب الإنسانية تروي القصة: أمينة، متقاعدة عربية تبلغ من العمر 68 عامًا وتعيش في إسبو، تقول إن دخلها الشهري تقلص بنحو 60 يورو بعد التعديلات. “قد يظن البعض أن المبلغ ضئيل، لكنه بالنسبة لي يعني التنازل عن بعض الأدوية أو تقليل استهلاك التدفئة في الشتاء”.

أما العاطلون عن العمل، فقد تأثروا بشكل ملحوظ بتشديد شروط الحصول على دعم البطالة. فالحكومة رفعت متطلبات البحث عن عمل وعدلت فترات الاستحقاق، ما يجعل من الصعب على البعض الاستمرار في تلقي الدعم. بالنسبة للعاطلين الناطقين بالعربية، الذين قد يواجهون بالفعل صعوبات في سوق العمل بسبب اللغة أو نقص الخبرة الفنلندية، فإن هذه الشروط الجديدة تضيف طبقة أخرى من التحدي. أحمد، شاب عربي في فنلندا فقد وظيفته مؤخرًا، يروي: “أرسلت أكثر من 40 طلب توظيف، ومع ذلك تم إبلاغي بأنني لم أكن نشطًا بما يكفي، وبالتالي قد أفقد حقي في الدعم”.

رغم هذه التحديات، يرى بعض الخبراء أن التخفيضات تحمل أيضًا فرصًا لإعادة التفكير في نظام الرفاه الاجتماعي الفنلندي. فالحكومة أعلنت عن نيتها مراجعة تأثير هذه الإجراءات بشكل دوري، وأكدت أن الهدف ليس تقويض نظام الدعم وإنما دفعه نحو مزيد من الكفاءة. بعض الجمعيات مثل Veronmaksajain Keskusliitto اعتبرت أن هذه الخطوات قد تعزز استدامة المالية العامة على المدى البعيد. لكن نقابات الطلاب والمتقاعدين عبرت عن رفضها، مشيرة إلى أن هذه الفئات هي التي تتحمل العبء الأكبر. السياسيون انقسموا بشدة حول الموضوع. أحزاب المعارضة وصفت السياسات بأنها “غير عادلة”، معتبرة أن الحكومة تستهدف الفئات الأضعف اجتماعيًا بدلاً من معالجة قضايا مثل التهرب الضريبي أو الإصلاح الضريبي الهيكلي. أما الحكومة فتمسكت بموقفها، مؤكدة أن الإجراءات ضرورية لحماية الاقتصاد الوطني من مخاطر العجز والدين العام.

أن تخفيضات الميزانية الحكومية لعام 2025 وضعت ثلاث فئات رئيسية في مواجهة تحديات حقيقية: الطلاب الذين يواجهون صعوبة في تمويل دراستهم، المتقاعدون الذين تراجعت قوتهم الشرائية، والعاطلون الذين يواجهون شروطًا أكثر صرامة للحصول على الدعم. بالنسبة للناطقين بالعربية في فنلندا، فإن هذه التغييرات تستدعي يقظة أكبر، سواء في متابعة حقوقهم أو في البحث عن بدائل مالية ومعيشية. ورغم أن الهدف المعلن هو تعزيز الاستدامة المالية، إلا أن السؤال يبقى مفتوحًا: هل يمكن تحقيق التوازن بين ضبط الميزانية وحماية الفئات الأكثر ضعفًا في المجتمع؟

المصادر

Arabi.fi