في ذلك الصيف الفنلندي، حيث تتلألأ البحيرات تحت شمس الشمال الهادئة، احتشد زعماء أوروبا والولايات المتحدة وكندا في هلسنكي ليفعلوا شيئًا بدا في وقته شبه مستحيل: أن يضعوا ورقة واحدة تقرأها عواصم المعسكرين، وتؤسّس لغة مشتركة بعد ثلاثة عقود من سوء الظن. سُمّي اللقاء وقتها “المؤتمر الأمني الأوروبي” لكنه خرج للعالم كأكثر من مؤتمر؛ خرج كحالة شعورية وسياسية أُطلق عليها لاحقًا “روح هلسنكي” إحساس بأن القارة تستطيع أن تحاور نفسها وتتعاهد على حدود ثابتة وحقوق إنسان متساوية، في عالمٍ كان كل شيء فيه قابلًا للاشتعال. في قاعة فنلانديا، وُقّعت “الوثيقة الختامية” لمؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا، وهي النص الذي صار لاحقًا يُعرف بـ “اتفاقية هلسنكي” أو “Helsinki Final Act” بتاريخ 1 أغسطس/آب 1975. الوثيقة لم تكن معاهدة ملزِمة بالمعنى القانوني الصارم، لكنها كانت إعلان نوايا عريضًا رسم عشرة مبادئ موجِّهة — “العشرية” — تبدأ من سيادة الدول، وعدم انتهاك الحدود، وحل النزاعات سلميًا، ولا تنتهي عند احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وتوسيع التعاون الاقتصادي والعلمي والثقافي عبر القارة. OSCE+1

ولدت روح هلسنكي من هذه الخلطة المتوازنة: أمن عبر الثقة، وحدود عبر الاعتراف، وحقوق عبر التعهد العلني. والمفارقة أن دول المعسكر الشرقي وقّعت صراحة على بنود حقوق الإنسان، ما أعطى ناشطي تلك البلدان لاحقًا سندًا أخلاقيًا يستندون إليه في المطالبة بالحريات. لم يكن هذا تفصيلاً تجميليًا في نص طويل؛ كان بذرة سياسية وأخلاقية أثّرت عميقًا في نهايات الحرب الباردة. ورغم أن النصوص صيغت بعناية دبلوماسية، فإن إقرار “عدم التدخل” إلى جانب “حقوق الإنسان” و”حرية تدفق المعلومات والأفكار” فتح ثغرة ضوء في جدار الانقسام، وأعطى المجتمع المدني في الشرق والغرب معًا لغة مشتركة للمساءلة. CSCE+1 لم تكن هلسنكي حدثًا مفاجئًا من فراغ؛ سبقته سنوات من “عملية هلسنكي” التي توزعت على مراحل: اجتماع تمهيدي لوزراء الخارجية في إسبو (فنلندا) 1973، ثم مفاوضات طنّانة في جنيف حتى 1975، ثم القمة الختامية في هلسنكي حيث امتلأت القاعة برؤوس دول وحكومات من ضفتي الستار الحديدي. الفكرة انطلقت تاريخيًا من رغبة دولية في إيجاد صيغ لتخفيف التوتر، لكن الدور الفنلندي كان حاسمًا: دولة غير منحازة تقترح وتستضيف وتنسّق، وتؤكد أن الحوار ممكن وأن الجغرافيا ليست قدرًا للصدام. vintti.yle.fi كان للوثيقة الختامية أربعة محاور كبرى: الأمن في أوروبا، التعاون (اقتصادي/علمي/تقني/تجاري)، “البعد الإنساني” الذي شمل الروابط الأسرية والسفر والثقافة والمعلومات، وآلية متابعة للمؤتمر حتى لا يبقى مجرد صورة جماعية. ولتجنب الالتباس وسوء التقدير في زمن المناورات، تضمّنت إجراءات بناء ثقة عسكرية: إخطار مسبق بالتدريبات الكبرى، وتبادل للمراقبين والخبراء، وتقارير واضحة حول توقيت وأهداف المناورات. هذا المزيج من الأمن الصلب والروابط الإنسانية كان سرًّا في نكهة “روح هلسنكي”: ليس أمنًا ضد أحد، بل أمنٌ مع الجميع. OSCE

غير أن التاريخ لا يحب القصص الخالية من العقد. فالوثيقة ما لبثت أن واجهت امتحان الواقع. بعد أربع سنوات فقط، جاء الغزو السوفييتي لأفغانستان (1979) ليكسر كثيرًا من الودّ الذي راكمته القمة، ويفتح طورًا جديدًا من الشكوك. ومع تفكك يوغوسلافيا في التسعينيات تحولت خرائط البلقان إلى ندوب تتذكّرها أوروبا، ثم جاء ضمّ روسيا أجزاءً من أوكرانيا عام 2014 ليطيح بفكرة “قدسية الحدود” التي طالما تغنّى بها خطاب هلسنكي. في لغة الإعلام الفنلندي ظهر توصيف قاسٍ: “اتفاقٌ مُرميّ بالثقوب”، وعبارة “روْح هلسنكي… إلى أين اختفت؟”؛ لأن القارة التي حلمت أن تصير أكثر هدوءًا عادت تتلمّس صخبها القديم. لكن حتى أكثر القراءات تشاؤمًا كانت تُقرّ بأن القمة صنعت قناة دائمة للكلام، على الأقل حين يصبح الكلام آخر ما تبقى قبل الانفجار. Yle.fi لم تكن آلية المتابعة ترفًا بل ضرورة. ففي بلغراد (1977–1978) اجتمعت الدول الخمس والثلاثون لتفحص الالتزام بالوثيقة، وتلتها محطات أخرى على الطريق، إلى أن تحوّل “المؤتمر” في 1992 إلى “منظمة الأمن والتعاون في أوروبا” (OSCE) كيانًا مؤسسيًا بمقر، وهياكل، وشبكات بعثات ميدانية، وأدوات إنذار مبكر ومراقبة انتخابات وبناء مؤسسات. بكلمات أخرى: صارت روح هلسنكي مؤسسةً تسعى لأن تترجم التعهدات إلى برامج ومهام وموازنات، حتى حين يتغير ميزان القوى وتتبدل الأزمات. CSCE+1

لكن هل خابت “روح هلسنكي”؟ الإجابة الأصعب والأصدق هي أنها لم تكن وعدًا بيوتوبيا أوروبية بقدر ما كانت بداية معجمٍ جديد للأمن. لقد أرست “العشرية” مبادئ يتكرر ذكرها في كل خطاب داخل هيئات المنظمة حتى اليوم: سيادة الدول، عدم استخدام القوة، تسوية النزاعات سلمياً، واحترام حقوق الإنسان باعتبارها جزءًا لا يتجزأ مما تسميه المنظمة “الأمن الشامل”. وحتى حين تخون الوقائع النصوص، يبقى هذا المعجم هو المرجع الذي تُقاس به الانتهاكات ويُستدعى به الضغط السياسي والمعنوي. osce.usmission.gov في قلب القصة تبقى فنلندا البلد الذي لعب دور المُضيف الوسيط نموذجًا لسياسة صغيرة الحجم كبيرة الأثر. لقد وفّرت هلسنكي المكان الذي جعل لقاءاتٍ نادرة بين قادة الخصوم ممكنة: فورد وبريجنيف، شميت، هونيكر، تيتو، بالمِه وغيرهم تحت سقفٍ واحد في لحظة تُعرَّف عادةً بأنها ذروة “الانفراج” خلال الحرب الباردة. الصور المحفوظة في الأرشيف الفنلندي تحكي عن ثلاثة أيام حارّة في مدينة باردة عادة، امتلأت فيها الصحافة والساحات والصالونات بالدبلوماسية الحثيثة، وأُغلقت بالتوقيع الذي جعل 1 أغسطس/آب 1975 يومًا مختلفًا في رزنامة أوروبا. museovirasto.fi

وإذا كانت الوثيقة قد تشققت لاحقًا تحت ضغط الوقائع، فإنّ أثرها بقي في نقطتين جوهريتين. الأولى هي “قابلية الكلام”: لحظاتٌ كثيرة كان يمكن أن تذهب إلى القطيعة النهائية لولا أن صيغ هلسنكي منحت العواصم بابًا للاتصال ولو بقدرٍ أدنى من القواعد المشتركة. والثانية هي “الطبيعة المعيارية”: وفّرت الوثيقة إطارًا أخلاقيًا يُقاس عليه الأداء السياسي، فصار من المتاح مساءلة الحكومات سياسيًا وإعلاميًا باسم نصٍّ وافقت عليه حتى لو لم يكن اتفاقية مُلزِمة. هذه الثنائية جعلت روح هلسنكي أقل من معاهدة وأكبر من بيان؛ جعلتها عرفًا سياسيًا أوروبيًا طويل المدى أكثر منه هدنة ظرفية. ولعل المفارقة الأشد وقعًا أن كثيرًا من القيمة الرمزية للوثيقة ظهر عندما خالفتها القوى الكبرى. الانتهاكات الفادحة من غزو أفغانستان، إلى حروب البلقان، ثم قضم أراضٍ أوكرانية جعلت الجملة الأولى في الوثيقة (“السلام، عدم استخدام القوة، احترام الحدود، حقوق الإنسان”) معيارًا يُذكّر أوروبا بما تريد أن تكونه حين تتذكّر نفسها؛ معيارًا لا يزول حتى حين يُساء إليه. ليس ذلك تبريرًا لخيبة، بل محاولة لفهم لماذا لم تمت “روح هلسنكي” تمامًا: لأنها تحولت إلى ذاكرة مؤسسية في منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، وإلى لغة مشتركة في الخطابات الأممية والإقليمية، وإلى حجر زاوية يُعاد ذكره كلما حاولت القارة أن تُرمّم شروخها. OSCE+1

على المستوى الإنساني، كان “البعد الإنساني” في الوثيقة نافذة الهواء التي دخلت منها الحياة اليومية: لمّ شمل العائلات، تسهيل السفر، تشجيع التبادل الثقافي، فتح قنوات الإعلام والمعرفة عبر الحدود. ما بدا وقتها تفاصيل “ناعمة” شارك في إضعاف صلابة الجدران الذهنية بين الشرق والغرب. ومع التكنولوجيا والإنترنت لاحقًا، تمددت تلك الروح في برامج تبادل طلابي ومشاريع جامعية ومؤتمرات علمية عابرة للحدود، فصار التعاون الثقافي والعلمي جزءًا من أمنٍ أوسع يُعرّفه الأوروبيون اليوم بأنه “أمن شامل” أكثر منه أمنًا عسكريًا فقط. OSCE هل يمكن استعادة “روح هلسنكي” اليوم؟ السؤال ثقيل، لكن الإجابة لا تكون باستعادة الماضي كما هو، بل بإعادة تشغيل مبادئه في واقعٍ تغيّر. العشرية لا تزال تُقرأ في بيانات المنظمة، وممثلو الدول حتى المختلفون جذريًا يكررونها في فيينا كل أسبوع تقريبًا. قد يبدو هذا شكليًا حين تتكلم المدافع، لكنه ليس بلا معنى: فاللغة المشتركة، حتى وهي مكسورة، تظل أحسن من الصمت، لأن الصمت في الجغرافيا الأوروبية لا يلبث أن يضجّ. osce.usmission.gov تُعلّمنا هلسنكي درسًا بسيطًا وصعبًا في آن: السلام ليس سطرًا يوقّع عليه قادة العالم ثم يذهبون إلى بيوتهم مطمئنين. السلام ممارسةٌ متعبة تتجدد كل يوم، وتحتاج إلى مؤسسات وذاكرة ومعايير. الوثيقة الختامية لم تكن عصًا سحرية، لكنها كانت بداية لغةٍ للعيش المشترك. وكلما اشتدت العواصف، تصبح الحاجة أكبر إلى تلك اللغة لا لأنها تمنع المطر، بل لأنها ترشدنا إلى المظلّات والطرقات الآمنة حين يشتد البلل.

Arabi.fi