يشهد النظام التعليمي في فنلندا تغييرات متسارعة تهدف إلى مواجهة التحديات التي أظهرتها الدراسات في السنوات الأخيرة، خاصة تلك المتعلقة بالفجوات التحصيلية بين الطلاب ذوي الخلفيات المختلفة. من بين القضايا الملحّة، برزت مسألة الأطفال المهاجرين الذين يجدون صعوبة في متابعة الدروس بسبب الحاجز اللغوي. وقد دفعت هذه التحديات وزارة التعليم الفنلندية إلى إطلاق حزمة من الإصلاحات التي تركز على توفير دعم لغوي وتعليمي إضافي للأطفال المنحدرين من أسر مهاجرة.

وفقًا لتقرير نشرته هيئة الإذاعة الفنلندية Yle، قررت الحكومة استثمار حوالي 200 مليون يورو لتعزيز التعليم الأساسي. وتشمل الخطة توفير ثلاث ساعات دعم إضافية أسبوعيًا في المواد الأساسية كالرياضيات، اللغة والأدب. هذه الإجراءات موجهة بالأساس إلى الطلاب الذين لا تعد اللغة الفنلندية أو السويدية لغتهم الأم، وهو ما يجعلهم أكثر عرضة للتأخر الدراسي مقارنة بزملائهم (Yle.fi).

لكن هذه الخطوة ليست معزولة، بل تأتي استكمالًا لسياسات سبق أن بدأت في بعض البلديات مثل Kokkola وVaasa. ففي هذه المدن، طُبّق نموذج يعرف باسم "التعليم التحضيري" (valmistava opetus)، والذي يسمح بدمج الأطفال المهاجرين مباشرة في الصفوف العادية، مع منحهم دعمًا لغويًا خاصًا أثناء الحصص. الهدف من ذلك هو تسريع عملية الاندماج وتفادي عزل الطلاب في فصول منفصلة، الأمر الذي قد يبطئ عملية تكيفهم مع المجتمع المدرسي ككل (Yle.fi).

من الناحية الاجتماعية، ينظر الخبراء إلى هذه السياسات على أنها استثمار طويل الأمد. فاللغة ليست فقط وسيلة للتعلم، بل هي جسر نحو الاندماج الكامل في المجتمع. الأطفال الذين يكتسبون مهارات لغوية قوية منذ سنواتهم الدراسية الأولى يكونون أكثر قدرة على النجاح أكاديميًا، والانخراط في أنشطة المجتمع، وحتى الاندماج في سوق العمل مستقبلًا. بالنسبة للعائلات العربية المقيمة في فنلندا، تُعتبر هذه البرامج فرصة ذهبية لدعم أطفالهم ومنحهم أدوات عملية تساعدهم على التكيف مع بيئة جديدة، دون أن يفقدوا في الوقت نفسه صلتهم بلغتهم الأم وثقافتهم.

رغم ذلك، يثير الموضوع نقاشات مستمرة. إذ يتساءل البعض عن مدى كفاءة هذه البرامج في حال لم تُطبق بشكل متساوٍ بين مختلف البلديات. فقد يحصل الطلاب في مدن كبرى مثل هلسنكي أو توركو على خدمات أكثر شمولًا مقارنة بأطفال يعيشون في بلدات أصغر. هذا التفاوت قد يؤدي إلى تعزيز الفجوة بين الأطفال المهاجرين أنفسهم. لذا، يدعو خبراء التعليم إلى وضع معايير وطنية واضحة تضمن الحد الأدنى من الدعم لكل طفل بغض النظر عن مكان سكنه.

وتشير بعض الدراسات الحديثة إلى أن الأطفال الذين يحصلون على دعم لغوي منتظم في السنوات الثلاث الأولى من دراستهم يحققون نتائج أفضل بكثير في المراحل اللاحقة، سواء في اختبارات القراءة أو في فهم المفاهيم الرياضية. بل إن الأمر يمتد إلى حياتهم الاجتماعية، حيث يصبحون أكثر قدرة على تكوين صداقات مع أطفال فنلنديين، مما يقلل من خطر الانعزال الثقافي أو التنمّر المدرسي.

على مستوى السياسات، يعكس هذا الاستثمار توجه الحكومة الفنلندية إلى تعزيز التكافؤ في التعليم باعتباره حجر الزاوية في الاندماج المجتمعي. فالحكومة تدرك أن التحديات الديموغرافية في فنلندا – مثل شيخوخة السكان ونقص اليد العاملة – تجعل من الضروري دعم الأجيال الجديدة من المهاجرين. فكل طالب يحصل على تعليم جيد اليوم يمكن أن يتحول غدًا إلى عامل مؤهل يسهم في الاقتصاد الوطني.

مع ذلك، لا تزال هناك تساؤلات حول كيفية توظيف التمويل المخصص لهذا الغرض. فبينما تؤكد الوزارة أن الأموال ستذهب إلى المدارس بشكل مباشر، يخشى البعض من أن تستخدم بعض البلديات هذه الموارد في أغراض أخرى أو أن تُوزع بطريقة غير عادلة. هذا ما دفع وزير التعليم Anders Adlercreutz إلى تحذير البلديات مؤخرًا من مغبة عدم استغلال الدعم الحكومي بشكل فعّال لتحسين جودة التعليم.

من جانب العائلات العربية، تتباين التوقعات. بعض الأهل يرحبون بهذه الخطوات ويعتبرونها فرصة لأطفالهم للحصول على بداية قوية، بينما يبدي آخرون قلقهم من أن التركيز المفرط على اللغة الفنلندية قد يضعف من مكانة اللغة العربية داخل المنزل. هنا يبرز التحدي المزدوج: كيف نضمن تعليمًا ناجحًا في لغة المجتمع مع الحفاظ على اللغة الأم التي تشكل أساس الهوية الثقافية؟

يشكل الدعم اللغوي والتعليم الإضافي للأطفال المهاجرين حجر زاوية في سياسات الاندماج الفنلندية. ورغم التحديات المرتبطة بالتنفيذ والتفاوت بين البلديات، تبقى هذه الخطوة رسالة واضحة بأن فنلندا تسعى إلى بناء مستقبل أكثر شمولية وعدالة. بالنسبة للأطفال العرب وغيرهم من أبناء المهاجرين، فإن هذه البرامج قد تكون المفتاح الذي يفتح لهم أبواب النجاح الأكاديمي والاجتماعي على المدى الطويل.

Arabi.fi